مسرح الأحكام

مما أطلت في تأمله -وهو جدير بطول التأمل فعلًا- أن الناس قد يشهدون منك لحظة خاطفة، ثم يعمّمونها على سائر أحوالك، ويظفرون منك بصورة ثابتة، فيكملونها اوتوماتيكيًا بمشهد متحرك في أذهانهم، ولا يفتأون يلاحقونك بالانطباعات والتصورات والأحكام وهم جلوس على المقاعد الخلفية، ثم يصدرون بيانًا مختومًا، فيه ما تعرف وما لا تعرف عن نفسك.

والنفس أعقد ما تكون على صاحبها ذاته، فكيف تكون بهذا الوضوح وهذه الصراحة واليقينيّة لدى عموم الناس؟

وأكثر ما يشعرني بالشفقة من يجعل حكم الآخرين هذا ونظرتهم القاصرة تلك ميزانًا يزن به حياته وتوجهاته، أو بوصلةً يسير حيثما وجهته، ويكترث بكل رأي يُرمى باتجاهه، على أيٍ درجة كان من الاعتباط، ويتحسّس من أي توجّس نحوه أو انقباض؛ وكأن الناس جميعهم خلقوا ليعُجبوا بهذا العبد المسكين، فيصبح حينها مسخًا دون أن يشعر، فلا هو غدا نفسه، ولا غدا ما يريده غيره، يفعل ما لا يشبهه ولا يعبر عن طبيعته، ويترك ما كان أولى به لو فعله، وتصبح حركته العفوية في مضمار الحياة حركةً مشلولةً، فيسير فيها وكأنه مهدّدٌ برصاص الأحكام.

وربما يوافقني أحد في أن كلًا منا له نصيبه من تأثير الآخرين عليه، قلّ ذلك أو كثر، شعر به صاحبه أم لم يشعر، وأن الخروج من هذه الربقة، والانعتاق من هذا التأثير إن كان مبالغًا فيه يحتاج لوعي بأن تفردك الحقيقي الذي لا يشذ عن دين أو خلق هو أجمل من كل ما درج عليه الناس، وأن طبيعتك البكر أليق ما تكون عليك، ثم بعد أن تعي هذا وتتشرّبه نفسك، تضع العالم كله وراء ظهرك، والله بين عينيك، وأنت في كل ذلك مدركٌ لبواعثك وقناعاتك والمرمى الذي ترمي إليه، ثم لا تألو على شيء.

وأنا هنا قد لا ألوم الناس على هذه التصورات التي يكونونها؛ لأنهم (ناس) خلقوا بهذه الطبيعة البشرية، وهذه التصورات عمن حولهم تتكون في نفوسهم أحيانًا دون وعي منهم؛ ولكني ألوم النفس حين تهتم لتلك الانطباعات، التي من طبيعتها أنها لا تنفك عن التناسل والنمو والتقلب حسب ما تمليه الخواطر والأمزجة.

هذه الفكرة المتأصّلة في نفسي والتي رسختها تجاربُ شخصية واحتكاك بالغير، بَنَت بيني وبين الحكم على الآخرين أسوارًا أحسبُ أنها منيعة، أو هكذا أحاول، وجعلت من اقتحام المساحات المجهولة من باب القياس، أو التذاكي، أو كلمة “واضحة”: أمرًا لا أرضاه لنفسي ولا أحب الوقوع فيه، وكثّفت الاحتمالات في تكوين التصور، ووسّعت المناطق الرمادية التي كنت أحكم بسوادها أو بياضها من أول مرة.

ورحم الله السنهوري يوم أن قال:

“وقد علمت أن الناس لا يخلصون شياطين، ولا يتمحضون ملائكة، والعاقل من لبس الناس على حالهم”.

ويقول سهيل إدريس في ذات السياق:

“ويل الناس من النفس البشرية، فلا يراها بيضاء أو سوداء إلا الذي أعياه تحليل أظلة ألوانها”.

ونحن لا نفعل ذلك إذ نفعله غباءً ولا سذاجةً، ولكن اعترافًا بقصور بشري، لذاتٍ بشرية ترجو السلامة لنفسها، وتسأل الله أن يجعل شغلها في نفسها، وألا يجعلها شغلًا لأحد، ولا حمى مستباحًا على جنبات الطرق.